يهتم علم الأحياء النمائي التطوري (evo-devo) أو (evolutionary-developmental biology) بدراسة ظهور الصفات المورفولوجية والفسيولوجية في الكائنات الحية بمختلف أنواعها، ومن ثم مقارنة هذه الصفات بين أنواع مختلفة من الكائنات. ويهدف هذا العلم المقارن إلى معرفة أصل نشأة هذه الاختلافات، بل وأحيانًا أصل التشابهات، وأيضًا معرفة الأسباب الحيوية للإبقاء عليها عبر الزمن.
يعمل علم الأحياء النمائي التطوري على تغطية مفاهيمٍ هامةٍ في علم الأحياء. فمثلًا، يهتم هذا العلم بشرح مبدأ (Phenotypic Plasticity) أو المرونة الظاهرية، وهو مبدأ يهتم بفهم قدرة البرامج النمائية داخل الكائنات الحية على الاستجابة للتغيرات البيئية المحيطة بها، حيث ينتج عن ذلك أنماط ظاهرية (Phenotypes) مختلفة؛ فيتغير لون الجسد في بعض الحشرات، وتظهر الأنياب في فم بعض الديدان، وذلك استنادًا إلى البيئة الموجودة فيها. بمعنى آخر، تحدث مرونة في التعبير عن الصفات بما يتلائم مع الظروف البيئية المحيطة، أي أنها صفات تكيفية (Adaptive trait) يُظهرها الكائن الحي لتساعده على النجاة في البيئة الجديدة.
وعلى النقيض، يهتم مبدأ الاستقناء (Canalization) بفهم المتانة الظاهرية. وهنا لا تتأثر البرامج النمائية للكائنات المختلفة بالتغير البيئي حولها، وكذلك لا تتأثر أحيانًا بالطفرات الوراثية داخلها. بمعنى آخر، ينمو الكائن بصفات مُحددة لا تتغير إلا في ظروفٍ شديدة التطرف، وكأن لهذه الصفات قناة محفورة في تاريخ نمو الكائن (Canalization).
كما يهتم هذا المجال بفهم مبدأ آخر مُثير للاهتمام، وهو فكرة الاستيعاب الجيني (Genetic assimilation). ويُفسر هذا المبدأ العملية التي يخضع فيها النمط الظاهري (Phenotype)- والذي كان نتاجًا سابقًا للتأثير البيئي- إلى التحكم الوراثي؛ فيتم التعبيرعنه بشكل ثابت، حتى في غياب هذا التأثير البيئي الذي أثار ذلك النمط في بادئ الأمر. أي أنه قد تم استيعاب الصفة داخل مورثات الكائن بشكل دائم.
ولدراسة كل هذه المفاهيم المثيرة للاهتمام، فإن هناك حاجة لوجود كائنات حية ليتم اتخاذها كنماذج للدراسة، وذلك ما يسمى بالكائنات النموذجية (Model organisms). يجب أن تفي هذه الكائنات النموذجية بمعايير محددة؛ لتمكين العلماء من استخلاص النتائج المرجوة. وتشمل هذه المعايير سهولة التربية، وتوافر التقنيات الوراثية التي من شأنها أن تُمكن العلماء من إيجاد إجابات على المستوى الجزيئي. فمن أجل دراسة الاستيعاب الجيني، فإنه يتطلب مراقبة نمط ظاهري معين عبر العديد من الأجيال، كما يتطلب امتلاك القدرة والموارد لإجراء دراسات وراثية مختلفة عبر هذه الأجيال؛ فمراقبة نمط ظاهري معين عبر عدة أجيال يعني ببساطة أننا بحاجة إلى كائن حي له دورة حياة قصيرة الزمن (Short generation time). وتعتبر الديدان (Caenorhabditis elegans) خير مثال لهذا الكائن، والتي قد تم تقديمها لأول مرة في هذا المجال في الستينيات من القرن الماضي، وما زالت إحدى الكائنات الحية النموذجية المُستخدمة على نطاق واسع حتى الآن؛ لبساطتها عند دراسة السلوك، والتطور، والشيخوخة.
كذلك يوجد كائن نموذجي آخر مُستخدم على نطاق واسع حتى الآن؛ لقصر دورة حياته، وتوافر أدوات التعديل الوراثي فيه أيضًا، والذي كان له تأثير كبير في مجال البيولوجيا النمائية- وهو ذبابة الفاكهة (Drosophila melanogaster) والتي ساعدت في اكتشاف جينات (genes Hox)؛ وهي عوامل نسخ (Transcription factors) تحدد مناطق الجسم أثناء نمو الجنين من الرأس الى الذيل. كما أضاف أيضًا إدخال سمكة الزرد (Danio rerio) ككائن نموذجي في مجال علم الأحياء التطوري في أواخر الستينيات- العديد من الاكتشافات، نظرًا لحدوث الإخصاب خارجيّا في هذه الأسماك، وكذلك شفافية الأجنة،؛ مما يتيح للعلماء دراسة جوانب مختلفة من النمو أثناء حدوثه عبر التصوير الحي. وإضافة إلى ما سبق، فقد شملت الكائنات النموذجية دراسة الضفدع الافريقي (Xenopus laevis) والذي كان له تأثير ضخم في مجال البيولوجيا النمائية، كما ساعد العلماء على فهم المراحل الأولى من التكوين (gastrulation). كذلك فإن استخدام الدجاج (Gallus gallus domesticus) منذ القرن الثامن عشر قد ساعد العلماء على إثبات تمايز الخلايا (Differentiation) والتعرف على الآليات التي تساهم في تشكيل الأنبوب العصبي (Neural crest). وأخيرًا وانتقالًا إلى نماذج الثدييات المعروفة؛ فقد أدت الفئران (Mus musculus) التي تم استخدامها منذ القرن العشرين إلى اكتشافات لا حصر لها بعلم الأحياء التطوري وجوانبه المختلفة، وخاصة التطبيقات الوراثية والطبية لدراسة التطور والنمو.
وإلى جانب كل هذه الكائنات الحية النموذجية المعروفة والمُستخدمة على نطاق واسع، ومع الآخذ في الاعتبار أن هذا المجال يعتمد في أساسه على المقارنات، فقد توسع مجال الـ (evo-devo) ليشمل عددًا من الكائنات غير التقليدية ليتم مقارنتها مع هذه الكائنات النموذجية. وعلى سبيل المثال، فقد قام العلماء في أوائل التسعينيات من القرن الماضي بدراسة نوع جديد من الديدان (Pristionchus pacificus)؛ وذلك لمقارنة نمو وتطور الخلايا والأعضاء التناسلية فيها بالديدان النموذجية (C.elegans). وقد ساعد هذا التوسع على تعميق معرفتنا في فهم أسس الاختلاف والتشابه، وكيفية تكيف الكائنات الحية وتطور برامجها النمائية، حسب التغيرات الجينية والبيئية، وبالتالي فهم أعمق للحياة وتنوعها من حولنا.