تُمثل دراسة الأمراض النفسية والعصبية وأمراض المخ لدى الإنسان عائقًا أمام العلماء، من حيث عدم القدرة على الوصول إلى الخلايا العصبية إلا من خلال الإضرار بالمخ. في (2007)، حدثت طفرة في المجال العلمي، وذلك عندما تمكّن العالم الياباني (ياماناكا) لأول مرة من إعادة برمجة وتحويل خلايا جلد الإنسان إلى خلايا جذعية أولية (induced pluripotent stem cells) والتي تمتلك إمكانية التحول لأي نوع من أنواع الخلايا، كالخلايا العصبية على سبيل المثال. وقد مكّنته تلك الدراسة بالطبع من الحصول على جائزة نوبل لعام (2012). ومن خلال ذلك، استطاع العلماء دراسة خلايا عصبية إنسانية حية في المعمل؛ مما فتح الطريق لدراسة العديد من الأمراض العصبية عن طريق الحصول على خلايا الجلد من المريض، ومن ثم تحويلها إلى خلايا عصبية. وفي خلال السنوات السابقة، نجحت الأبحاث في تحويل نمو هذه الخلايا العصبية في المختبر من كونها ثنائية الأبعاد إلى ثلاثية الأبعاد. وبالتالي، أصبحت هذه الخلايا تشبه الأدمغة الصغيرة من حيث تعقيدها وعدد ونوع الخلايا العصبية بها، ومن ثم أطلق عليها عُضيات الدماغ (Brain organoids). وقد أصبحت هذه العُضيات أداة مهمة لزيادة فهم تطور وتنظيم المخ، غير أنها قد تفتح المجال لكثير من الأسئلة الفلسفية والأخلاقية.
تُعرف عُضيات الدماغ (Brain organoids) بأنها عبارة عن أدمغة صغيرة نمت في المختبر ويتم تطويرها من الخلايا الجذعية المُستحثّة مُتعددة القدرات (induced pluripotent stem cells) وهي خلايا جسدية بالغة أعيد برمجتها لتتصرف مثل الخلايا الجذعية.
طور الفريق البحثي بإشراف الدكتور موتري من جامعة كاليفورنيا في سان دييغو- عدة استخدامات ثورية لهذه العُضيات خلال العديد من الأبحاث الخاصة بالأمراض النفسية والعصبية. وخلال هذه الدراسة، ابتكر دكتور موتري عُضيات دماغ إنسان نياندرتال من خلال التعديلات الجينية، والتي تشبه تلك الخاصة بالأشخاص المصابين بالتوحد. وقد تُساعد هذه الدراسة في فهم مرض التوحد، والذي يُعد مرضًا معقدًا ينفرد به البشر، ولا توجد له نماذج حيوانية دقيقة لدراسته بشكل صحيح.
ويمكننا الاستفادة من عُضيات الدماغ بالعديد من الأبحاث، ومنها: دراسة تأثير الأمراض المُعدية على المخ؛ حيث أصاب العلماء عُضيات الدماغ بفيروس زيكا، وأظهروا أنه يمكن أن يسبب الكثير من التشوهات الخلقية. كما قاموا بإصابتها بفيروس (SARS-CoV19) الذي دمّر الخلايا العصبية، وقلَّل من نقاط الاشتباك العصبي. إضافة إلى ذلك، فقد أرسل علماء آخرون عُضيات الدماغ إلى الفضاء؛ لدراسة تأثير نقص الجاذبية على نمو الدماغ، لتقييم ما إذا كان يمكن للبشر أن يتعايشوا خارج كوكب الأرض.
وفي شهر أغسطس من عام (2019)، وفي تجربة مثيرة من نوعها تم نشرها في مجلة (Cell Stem Cell)، طور الفريق البحثي بإشراف الدكتور موتري نموذجًا لعُضيات دماغ بشرية لديها القدرة على التغيير الديناميكي الخلوي أثناء النضج، كذلك أصدرت نشاطًا كهربائيًّا متزايدًا ومنتظمًا على مدى عدة أشهر من التجربة وذلك قبل إيقافها. وقد أظهرت هذه الشبكة العصبية نشاطًا تذبذبيًّا مُنتظمًا، وهو ما يُمثل أحد خصائص العقل الواعي، والذي سرعان ما يتحول الى أنماط زمانية ومكانية أقل انتظامًا، محاكيًّا لتخطيط كهربية الدماغ البشري قبل الولادة. تُشير هذه النتائج إلى أن تطور النشاط الشبكي المُنظّم في نموذج القشرة المخية للإنسان قد يخضع للبرمجة الجينية. ويعتقد الدكتور موتري وفريقه أن هذا النموذج يوفر فرصة لاستكشاف دور نشاط الشبكة العصبية في القشرة البشرية النامية.
ورغم أن هذه الأدمغة الصغيرة تعتبر بدائية للغاية، وتُشبه نمو المولود الجديد، إلا أن هذه التجارب قد دَفعت العلماء إلى طرح العديد من الأسئلة الأخلاقية والفلسفية، حول استحقاق هذه العُضيات لأي من أشكال الحماية التي تُمنح بشكل روتيني لموضوعات البحث البشرية أو الحيوانية؛ نظرًا لأن العُضيات لا تقع تحت مظلة أي من هذه الأبحاث، مما يُعقد الرقابة الأخلاقية حولها. فبرغم خلو هذه العُضيات من الوعي البشري حاليًا، إلا أن الباحثين يدركون أن هذه العُضيات سوف تُصبح أكثر تعقيدًا وواقعيةً في المستقبل القريب؛ حيث يتصور بعض الباحثين إمكانية زرع العُضيات في حيوانات المختبر التي تمتلك أنظمةً عصبيةً فعالةً ومتطورةً، وبالتالي يمكن أن تتكامل هذه العُضيات معها. كما أن هناك إمكانية في زيادة نُضج هذه العُضيات، عن طريق توصيلها بالروبوتات للسماح لها بالتفاعل مع العالم الخارجي.
فيما يلي بعض الأسئلة التي يجب وضعها في الاعتبار:
1. هل يمكن للدراسات التي تتضمن أنسجة دماغية تمت إزالتها من شخص حيّ أو من جثة تقديم معلومات حول ذكريات الشخص؟
2. هل يمكن للكائنات الحية التي ليست "بشرية بيولوجيًا" أن تُبرر لنا درجة معينة من الوضع الأخلاقي شبه البشري؟
3. هل تتحدى نماذج الدماغ البشري خارج الجسم فهمنا للحياة والموت؟
4. كيف يجب التخلص من أنسجة المخ البشري، أو التعامل معها في نهاية التجربة؟
في الوقت الحالي، لا يوجد إجماع عالمي على اللوائح التي من شأنها أن تمنع الباحث من خلق الوعي في المختبر باستخدام عُضيات الدماغ. ومن ناحية أخرى، يُمكن للنماذج التجريبية للدماغ البشري أن تُساعد في حل الألغاز حول الأمراض النفسية والعصبية التي ظلت بعيدة المنال لفترة طويلة. ولذلك، وقبل الاستمرار في مثل هذه الأبحاث، يجب صياغة إطارٍ أخلاقيّ؛ لضمان قبول هذا المجال البحثي على المدى الطويل.