تتعرض الأدوية للعديد من التفاعلات الكيميائية عقب دخولها الجسم، مما قد يؤثر على وظيفة الدواء وآثاره. فعلى سبيل المثال، الأدوية التي تؤخذ عن طريق الفم تصل للأمعاء الدقيقة والغليظة، حيث تسكن الميكروبات المعوية. الميكروبات المعوية المفيدة -والتي تُعرف بالـ microbiome- هي ميكروبات نافعة تعيش بشكل دائم في أمعاء الإنسان وتقوم بالعديد من الوظائف الحيوية. تمتلك تلك الكائنات الدقيقة تنوعًا جينيًّا مذهلًا، حيث يحتوي الجينوم الخاص بها على عددٍ من الجينات أكبر بمائة وخمسين مرة من نظيره البشري! مما يُمكّنها من إنتاج الكثير من البروتينات التي لديها القدرة على استقلاب الأدوية (Drug metabolism). مما قد يؤدي إلى تنشيطها أو تثبيطها أو حتى تحويلها إلى مواد سامة!
درس مؤلفو هذه الورقة العلمية بعضًا من هذه التفاعلات بشكلٍ مُمنهج، محاولين أن يقدموا تفسيرًا للآليات التي تجعل الاستجابة الدوائية تختلف من مريض لآخر، وبالتالي سلّطوا الضوء على الدور الذي يلعبه ليس فقط المحتوى الجيني للمريض، بل الميكروبات المعوية الخاصة به أيضًا في هذه التفاعلات، فما هي الجينات المسؤولة عن هذه التفاعلات؟ من أجل معرفة ذلك درس الباحثون قدرة ٧٦ سلالة بكتيرية -والتي عادةً ما تتواجد داخل أمعاء الإنسان- على استقلاب ٢٧١ دواءً طبيًّا مختلفًا كيميائيًا داخل أنابيب الاختبار (in vitro).
اكتشف العلماء أن ثلثيّ الأدوية المختبرة تناقصت نسبتها بحوالي ٢٠٪ بعد تعريضها للبكتيريا! كما لوحظ أن كل سلالة بكتيرية لها القدرة على استقلاب من ١١ إلى ٩٥ دواءً مختلفًا. وللتأكد من صحة هذه النتائج؛ قام العلماء باستخدام ما يسمى بالمحكمات التجريبية (controls)؛ حيث تم استخدام أنابيب بها نفس الأدوية ولكنها خالية من أي بكتيريا، وقد لوحظ عدم انخفاض نسب الأدوية في تلك الأنابيب مقارنةً بالأنابيب التي تحتوي على بكتيريا. ومن الملاحظات المثيرة في هذه الدراسة هو أنه كلما زاد التقارب بين سلالتين من البكتيريا، زادت درجة التشابه في قدرتهما على التفاعل مع الأدوية المختلفة. وعلى الناحية الأخرى، فكلما تقارب التركيب الكيميائي لدوائين، تشابهت تفاعلاتهما الكيميائية مع مختلف أنواع البكتيريا.
ولكي يتمكن الباحثون من كشف هوية المنتجات الجينية المسئولة عن استقلاب الأدوية؛ قاموا بتطوير نموذجٍ جديدٍ يُدعى اكتساب الوظائف (Gain of function). تقوم الفكرة على اختيار نوع من البكتريا المتواجدة بكثرة في الأمعاء وهي بكتيريا (بكتيرويد ثيتا يوتا اوميكرون)، والتي قد سبق وتم إثبات تأثيرها على استقلاب ٤٦ نوعًا مختلفًا من الأدوية، ثم قاموا باستخلاص حمضها النووي واستنساخه وتقسيم جيناته باستخدام نواقل حيوية (نواقل الايشرشيا القولونية)؛ لكي يتمكنوا من دراسة تأثير النسخ المفردة الصغيرة وحدها -وليس التسلسل الجيني كاملًا- على استقلاب الدواء المُعطى (الديلتيازيم) ولنعرف أيًا منهم الأقوى تأثيرًا على هذا الدواء. باستخدام هذه التقنية استطاع الباحثون اكتشاف ١٦ منتجًا جينيًّا قادرًا على استقلاب ١٨ دواءً مختلفًا.
توفر هذه الدراسة إطارًا عامًا لدراسة تأثير الميكروبات المعوية المفيدة على عددٍ كبيرٍ من العقاقير الطبية، كما تستخلص أن ثلثيّ الأدوية المختبرة تتفاعل حيويًا مع سلالة واحدة على الأقل من الميكروبات المعوية، وأن الطعام وبعض المواد الموجودة بشكلٍ طبيعيّ تُوفر بيئةً مناسبةً لتلك التفاعلات. تأتي هذه النتائج مؤكدةً على دراسات سابقة حاولت الربط بين التكوين السلالي للميكروبات المعوية وبين الاستجابة الدوائية لكل شخص، وتؤكد على أهمية هذا النوع من الدراسات كخطوة أساسية لفهم آليات التفاعل بين العقاقير المختلفة وبين البكتيريا المعوية ومدى تأثير تلك الآليات على فعالية كل دواء.