تُعَدُّ عملية تَكَيُّف الكائنات الحية في البيئات المختلفة (Adaptation) من أكثر العمليات إثارة للاهتمام في علم الأحياء؛ لما تحويه من جمال وإبهار على المستوى الخلوي (Cellular)، الجزيئي (Molecular)، وعلى مستوى الكائن ككل (organismal). كما تَتَكَيّف الكائنات الحية مع بيئتها الجديدة عن طريق اكتساب صفات يتم توارثها عبر الأجيال، والتي بدورها تساعدها على البقاء والتكاثر. وقد اقترح العلماء طريقتين لاكتساب هذه الصفات؛ تكون الأولى عن طريق نشوء طفرات جديدة بالمادة الوراثية (Genetic mutations)، أما الثانية، فعن طريق وجود تباينات وراثية خَفِيَّة داخل المادة الوراثية (Cryptic genetic variation). وتظل هذه التباينات كامنة، ولا يتم التعبير عنها إلا تحت تأثير عوامل بيئية جديدة أو غير مُلائِمَة، كعوامل الإجهاد البيئي (Environmental stress conditions).
وقد أظهرت الدراسات مؤخرًا أن بروتين (HSP90) يوفر الآلية الجزيئية للمحافظة على التباينات الوراثية الخَفِيَّة. كما أوضح الباحثون أنه ما لم يتعرض بروتين (HSP90) لخلل ما تحت ظروف الإجهاد البيئي على سبيل المثال، فإنه يُمكنه أن يحافظ على التباينات الوراثية الخَفِيَّة، والتي قد يتم استخدامها للتَكيُّف في البيئات الجديدة. في الآونة الأخيرة، تكاتفت جُهود العلماء لمحاولة معرفة مدى اعتماد عملية التَكَيُّف على التباينات الوراثية الخَفِيَّة الموجودة مُسبقًا عِوَضًا عن ظهور طفرات جديدة، وكذلك البحث عن إحدى الكائنات الحية، حيث يُمكننا دراسة هذه الظاهرة بشكل واضح.
في هذه الدراسة، حاول الباحثون الإجابة عن بعض الأسئلة من خلال عدة تجارب لدراسة صفة وجود العين لدى الأسماك السطحية (أستيانَكْس ميكسيكانَسْ Astyanax mexicanus) التي تعيش قرب مياه سطح الأنهار، وكذلك صفة اختفاء العين لدى أسماك الكهف من نفس النوع، باعتبار أن هذه الصفة تَكَيُّفًا من الأسماك لبيئتها المختلفة- فما فائدة وجود العيون لدى أسماك الكهوف؟ فهي لا تُستَخدَم داخل الكهوف لانعدام الإضاءة بها! لكن، قد يكون لفُقدان العين لدى أسماك الكهوف أهمية تَكَيُّفية مباشرة؛ حيث تُحَوِّل طاقتها المُستخدمة في الاحتفاظ بوجود العين لتنمية حواس أُخرى لتكون أكثر تَكَيُّفا في بيئتها الجديدة.
في التجربة الأولى، أراد العلماء محاكاة تأثير الإجهاد البيئي على أسماك السطح ذات الأعين؛ فقام الباحثون بتربية الأسماك السطحية في وجود مادة الراديسكول (Radicicol)، وهي مادة كيميائية ترتبط ببروتين (HSP90) وتُغير من تركيبه. ونتيجة لذلك، لُوحِظَ تزايد تعبير الجينات المرتبطة بتثبيط تعبير جين (HSP90)، وكذلك اختلافًا كبيرًا في حجم العين ليرقات الأسماك؛ مما يدعم فكرة تدخل بروتين (HSP90) في صفة حجم ووجود العين.
وفي التجربة الثانية، قام الباحثون بتربية الجيل الثاني من الأسماك الهجين (ناتج تزاوج أسماك السطح مع أسماك الكهوف)؛ فوجدوا أن حجم العين وكذلك مَحْجِر العين- لجميع الأفراد الهجينة من الجيل الثاني- أصغر من الأفراد الأبوية للأسماك السطحية. وهذا يدل على توريث صفة صِغَر حجم العين من الآباء إلى الأبناء، وبالتالي تدعم هذه النتيجة ما سبق قوله بأن صفة اختفاء العين لأسماك الكهف قد تكون تَكَيُّفية لأنها تُوَرَّث.
أما التجربة الثالثة، فاستنادًا إلى ما يُعرف عن بروتين (HSP90) ودوره في مقاومة الإجهاد البيئي؛ فهل سيتغير تعبير بروتين (HSP90) في الأسماك التي تعيش قرب سطح النهر إذا ما أصبحت مُحاصَرةً بصورة فُجائية في بيئة مياه الكهوف؟ وللإجابة عن هذا السؤال، قام الباحثون بتربية الأسماك السطحية في بيئة بها مَوْصِليّة منخفضة كمَوْصِليّة مياه الكهوف (٢٣٠ ميكرو سيمنز)؛ حيث اكتشف الباحثون أن الخاصية المَوْصِليّة لمياه الكهوف منخفضة وتصل إلى (٢٣٠) ميكرو سيمنز، بينما تصل هذه الخاصية إلى (١٣٠٠) ميكرو سيمنز في مياه الأنهار. وهذا الانخفاض في الخاصية المَوْصِليّة لمياه الكهوف قد يشكل نوع من الإجهاد البيئي على الأسماك. وقد وجد الباحثون أن التعبير الجيني لبروتين (HSP90) يزداد بمعدلات مرتفعة، مما يدل على أنها بالفعل في حالة استجابة للضغط البيئي. كما يدل على أهمية بروتين (HSP90) في مقاومة الإجهاد البيئي.
واعتمادًا على نتائج التجارب الثلاث السابقة والتي تفيد بتدخل بروتين (HSP90) في صفة حجم العين ووجودها، وتؤكد على أن صفة اختفاء العين لأسماك الكهف قد تكون تَكَيُّفية لأنها تُوَرَّث، وكذلك بأن الظروف البيئية القاسية داخل الكهوف تؤثر على تعبير جين (HSP90)؛ فإننا نستطيع أن نشير بقوة إلى مشاركة بروتين (HSP90) في تَكَيُّف أسماك الكهف. وبهذا استطاع العلماء إيجاد مثال تجريبي حي لفهم تَكَيُّف الكائنات الحية عن طريق التباينات الوراثية الخفية. ورغم اعتبار عوامل الإجهاد البيئي القاسية لأسماك الكهف استثنائية من نواحٍ عديدةٍ؛ إلا أنها تُعد بمثابة قوة دافعة لدراسة العديد من التَكَيُّفات الأخرى بخلاف فُقدان العين.