لطالما ارتبطت التغذية بالوظائف المناعية للجسم، لكن الآليات الدقيقة التي تربط بين تقلبات النظام الغذائي، كالصيام وإعادة التغذية Refeeding1 وديناميكية الخلايا المناعية بقيت غامضة. في هذا السياق، ركزت دراسة حديثة على الخلايا الأحادية Monocytes، وهي خلايا مناعية تُنتج في نخاع العظم، وتدور في الدم قبل أن تهاجر إلى الأنسجة لتشارك في مكافحة العدوى. تُعرف هذه الخلايا بقصر عمرها النصفي2، حوالي 20 ساعة في الدم، ما يجعل إنتاجها المستمر في النخاع ضروريًا للحفاظ على أعدادها.
سؤال البحث: هل تختفي الخلايا الأحادية حقًا خلال الصيام؟
لاحظ الباحثون أن الصيام يُقلّل أعداد الخلايا الأحادية في الدم بشكل مفاجئ، مما أثار تساؤلات حول مصيرها، وتأثير ذلك على الاستجابة المناعيّة، خاصة عند العودة لتناول الطعام. فعلى الرغم من أن هذه الخلايا تُعرف بقصر عمرها النصفي كما أشرنا، فإن أثر الصيام على معدلات موتها أو تجديدها وإنتاجها يظل غامضًا، مما أثار فضول الباحثين لمعرفة ما إذا كانت الخلايا الأحادية تختفي فعلًا خلال الصيام، وكيف تؤثر إعادة التغذية على بقاء هذه الخلايا، وخصائصها الوظيفية.
منهجية البحث
أجرى الباحثون تجارب على الفئران، حيث جعلوها تصوم لمدة تصل إلى 24 ساعة، ثم قدموا لها الطعام لفترات قصيرة بعد الصيام. وخلال هذه التجارب، تم قياس عدد الخلايا المناعية المختلفة في الدم، والنخاع العظمي، والأنسجة الأخرى، كما تم قياس مستويات التعبير الجيني لمجموعة من الجينات، وبالأخص CXCR43، كذلك درسوا مدى تأثير الصيام وإعادة التغذية على مستوياته، وبالتالي تأثيره على الخلايا الأحادية.
استخدم الباحثون تقنية خاصة لتتبع حركة الخلايا المناعية داخل الجسم، حيث وضعوا بروتينات فلورية خضراء GFP على بعض الخلايا الأحادية، حتى يتمكنوا من مراقبتها بينما تنتقل بين الدم والنخاع العظمي، كما استعانوا بتقنيات متقدمة، مثل: التدفق الخلوي Flow Cytometry لتحليل وتعداد الخلايا المناعية، والمجهر الحي Intravital Microscopy لمراقبة حركة الخلايا مباشرة، وتقنيات التتبع EdU/BrdU Pulse-Chase لتقييم دورة حياة الخلايا.
بالإضافة إلى ذلك، درس الباحثون دور هرمون الكورتيكوستيرون Corticosterone، وهو هرمون يُفرَز استجابةً للإجهاد، وكيفية تفاعله مع الدماغ والغدد المختلفة لتنظيم حركة الخلايا المناعية. وكان الهدف من ذلك فهم كيفية إسهام الجهاز العصبي والهرموني في التحكم بهذه التغيرات.
النتائج والمآلات
أظهرت النتائج أنّ الصيام يؤدي سريعًا إلى انخفاض عدد الخلايا الأحادية في الدورة الدموية؛ إذ ترجع هذه الخلايا إلى النخاع العظمي بحافز من إفراز الكورتيكوستيرون الذي يُعزّز مستقبل CXCR4 المسئول عن جذبها إلى النخاع العظمي. وعند إعادة التغذية، تتدفق هذه الخلايا مجددًا إلى الدم بكميات كبيرة، لتُشكّل فائضًا من خلايا أكبر عمرًا وأكثر عرضة لإطلاق استجابات التهابية أعلى. وعند التحدي بعدوى بكتيريا الزائفة الزنجارية Pseudomonas aeruginosa4، تبيّن أنّ الفئران التي صامت ثم تناولت الطعام سريعًا عانت من تفاقم الالتهاب ومعدل وفاة أعلى، على الرغم من أنّها لم تظهر اختلافًا كبيرًا في الحمل البكتيري في الرئة.
تحمل هذه النتائج دلالات مهمة؛ فهي تقدّم فهمًا تفصيليًا لكيفية تفاعل الجهاز العصبي الهرموني مع الجهاز المناعي خلال دورات الجوع والشبع، وتسلّط الضوء على أنّ الصيام المطول ثم الإفراط في تناول الطعام ربما يقودان إلى اختلالات في التوازن المناعي، ورفع حدّة الالتهاب عند التعرّض لمسببات المرض.
كما تشير الدراسة إلى أنّ تأثيرات الصيام ليست دائمًا حميدة، كما تُصوَّر في بعض الأبحاث، بل قد تتحوّل إلى سلاح ذي حدّين، خصوصًا في حالات العدوى الحادة. وبذلك، قد تدفع هذه الملاحظات بالباحثين والأطباء إلى النظر بصورة أشمل في استراتيجيات الحِمية والتغذية عند تصميم برامج علاجية أو وقائية، سواء على صعيد ضبط الالتهابات المزمنة أو مواجهة الإصابات الجرثومية. ومع أنّ التجارب قد أُجريت على الفئران، فإنها قد تفتح المجال أمام دراسات مستقبليّة للبحث في إمكانية امتداد هذه الآليات إلى الإنسان، وتحديد المدى الزمني، وقوة الاستجابة الهرمونية اللازمة لتحفيز هجرة الخلايا المناعية، أو إطالة عمرها في بيئات آمنة، تمهيدًا لفهم أفضل لآثار الحميات الصارمة على الصحة والمناعة.
على الهامش: