عادة ما يرتبط الصيام في أذهان الكثير من الناس بالامتناع عن الطعام لمدة طويلة. ويشترك في ذلك أتباع الأديان السماوية وغير السماوية، إضافة إلى اتخاذ بعضهم للصيام كأسلوب حياة، خاصة مع تزايد الأبحاث الدالة على فوائد الصيام الصحية، والسلوكية، وأحيانًا المجتمعيّة. ويُعرف شهر رمضان المبارك بأنه شهر الصيام والعبادة لدى المسلمين، لكن صيام نهاره لا يقتصر فقط على الامتناع عن الطعام، والشراب، وسائر المفطرات، بل يُعيد تشكيل العادات اليومية، ويُعزز قيم العطاء، والصبر، والانضباط. وفي هذا السياق، سأسلّط الضوء على بعض الأبحاث العلمية المرتبطة بالصيام وشهر رمضان الكريم، والتي ستنشر تباعًا على صفحات المنتدى العربي العلمي (ساف) للتواصل الاجتماعي على مدار هذا الشهر.
تأثير الصيام على الصحة الجسدية
من الناحية الصحية، تشير الأبحاث إلى أن الصيام يُعزز الأيض metabolism، ويؤثر على الاستجابة المناعية، وينظم مستويات السكر في الدم، كما أنه يحسن التركيز، ويقلل التوتر. وفي هذا السياق، نسلط الضوء على دراسة لنموذج صيام باستخدام الفئران يُحاكي صيام رمضان، وهو ما استخدم لفهم تأثير الصيام على طول العمر، ومؤشرات التمثيل الغذائي. وقد وجد الباحثون أن الصيام أدى إلى انخفاض مستويات بعض معززات الشيخوخة، وارتفاع مستويات مضاداتها، إضافة لارتفاع مضادات الالتهاب والأكسدة، مما قد يحسن المؤشرات الصحيّة، ويطيل العمر[1].
ولأن التغذية ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالوظائف المناعية للجسم، فقد سعى الباحثون إلى محاولة فهم تأثير الصيام وإعادة التغذية على ديناميكية الخلايا المناعية، وخاصةً الخلايا الأحادية monocytes التي تُنتج في النخاع العظمي، وتؤدي دورًا بارزًا في مكافحة العدوى. أظهرت الدراسة أن الصيام يعيد توزيع الخلايا الأحادية، حيث تعود إلى النخاع العظمي أثناء الصيام، ثم تُطلق مجددًا عند إعادة التغذية أو الإفطار، مما قد يؤثر على التوازن المناعي، وقدرة الجسم على التعامل مع العدوى [2].
ومع انتشار الصيام المتقطع، درس الباحثون تأثيره على المرضى المصابين بالكبد الدهني غير الكحولي NAFLD ومتلازمة التمثيل الغذائي metabolic syndrome وإمكانية استخدامه كوسيلة علاجية. وهنا نسلط الضوء على دراسة أشارت إلى أن الجمع بين الصيام المتقطع والتمارين الرياضية الهوائية aerobic exercise يُقلل من تراكم الدهون في الكبد، ويُحسن حساسية الجسم للأنسولين، ويخفض مستويات الالتهاب خاصةً في المرضى المصابين بالكبد الدهني غير الكحولي [3]. وتشير هذه النتائج إلى أن الصيام مع ممارسة الرياضة قد يكون نهجًا وقائيًّا فعالًا ضد الكبد الدهني. كما أظهرت تجربة شملت 39 مريضًا بمتلازمة التمثيل الغذائي، وهم من الفئات الأكثر عرضة للإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية، أن الصيام يُحسن كتلة الدهون، ويُوسع الأوعية الدموية، ويُحسن تركيبة الميكروبايوم المعوي gut microbiome، مما يدعم إمكانية استخدامه للحد من مخاطر أمراض القلب [4].
تأثير الصيام على أداء القضاة والطلبة والرياضيين
لم تقتصر الأبحاث على الجانب الصحي للصيام، بل امتدت لتشمل آثاره الاجتماعية. ففي دراسة استندت إلى بيانات نصف قرن من القضايا الجنائية في باكستان والهند، أشارت النتائج إلى أن القضاة المسلمين يميلون إلى إصدار أحكام متساهلة خلال رمضان، مع ارتفاع معدلات التبرئة، وانخفاض معدلات الاستئناف والنقض، مقارنة بباقي شهور السنة [5]. ويشير ذلك إلى أن رمضان قد يؤثر على العاطفة والعدالة، مما يعكس بعدًا نفسيُا واجتماعيًا مثيرًا للاهتمام.
وفي دراسة أخرى، تبين أن صيام رمضان أدى إلى زيادة النشاط البدنيّ والالتزام بحمية البحر الأبيض المتوسط، وانخفاض معدلات التدخين في طلبة الطب الذين صاموا رمضان، دون تأثير ملحوظ على أدائهم الأكاديمي [6]. أما بالنسبة للرياضيين، فقد تبين أن الأداء البدنيّ لم يتأثر بالصيام بشكل كبير، حيث لم تُسجل فروق ملحوظة في وقت الركض، واستهلاك الطاقة الأيضيّة [7].
تطورات في تكنولوجيا تحديد الشهور القمرية
تحديد بداية الشهور الهجريّة كان دائمًا محط جدل، حيث يعتمد على رؤية الهلال، والتي تتأثر بالعوامل الجويّة والجغرافيّة. ومع التطور التكنولوجي، استخدم الباحثون تقنيات الذكاء الاصطناعيّ وتحديدًا خوارزميات التعلم الآلي، مثل؛ نماذج الشبكات العصبونية Neural Networks عبر جمع بيانات واسعة النطاق من ثلاثة وأربعين بلدًا على مدار ثلاثة عشر عامًا، وذلك من أجل التنبؤ بقابلية رؤية الهلال بدقة تجاوزت نسبة نجاحها 91% [8]. هذه النتائج تسلط الضوء على إمكانية الجمع بين التكنولوجيا الحديثة سريعة التطور كالذكاء الاصطناعيّ، والطرق التقليدية لرؤية الهلال، لدعم الجهات المختصة في اتخاذ قرارها الأخير بتحديد بداية الشهور الهجريّة.
وتشير الدراسات سابقة الذكر إلى أن الصيام يؤثر على الصحة، والمناعة، والسلوكيات الاجتماعية، والأداء البدني. ورغم فوائده العديدة، فإن آثاره تختلف وفقًا للعوامل الفردية، وظروف كل دراسة، مما يتطلب المزيد من البحث لفهم تأثيره وآلياته بشكل أعمق. ولتحقيق أقصى فائدة صحية، أوصي القراء بالموازنة بين الصيام واتباع نظام غذائي متكامل، مع أسلوب حياة صحيّ أشمل.
لقراءة المقالات المذكورة على موقع ساف أو المقالة الرئيسة:
[1] https://doi.org/10.1038/s41598-024-79557-y
[2] https://www.safonline.org/article/article-282
(https://doi.org/10.1016/j.immuni.2023.01.024)
[3] https://www.safonline.org/article/article-283
(https://doi.org/10.1016/j.cmet.2022.12.001)
[4] https://www.safonline.org/article/article-108 (https://academic.oup.com/jcem/article/106/1/64/5918106)
[5] https://www.safonline.org/article/article-199 (https://www.nature.com/articles/s41562-023-01547-3)
[6] https://doi.org/10.1186/s12889-023-16385-1
[7] https://doi.org/10.3389/fnut.2024.1322128
[8] https://doi.org/10.1038/s41598-023-32807-x