لطالما أدى التصوير الدقيق دورًا أساسيًّا في العلوم الحيوية، إذ يُتيح لنا فهم تكوين الكائنات الحية على مستويات متعددة، بدءًا من الأنسجة المعقدة، مثل: الدماغ، ومرورًا بالكائنات أحادية الخلية كالبكتيريا، وانتهاءً بمكوناتها الدقيقة، كالبروتينات، والحمض النووي. وقد أسهم هذا الفهم في كشف آليات العديد من الأمراض وتشخيصها، مثل: السل، والزهايمر، والسرطان.
من بين التقنيات البارزة في هذا المجال، تأتي تقنية المجهرية الفِلوَريّة أو الاستشعاعيّة Fluorescence Microscopy، التي تُعد أداة محورية بفضل تأثيرها الطفيف على العيّنات. تعتمد هذه التقنية على استخدام صبغات فلورية Fluorophores ترتبط بجزيئات محددة داخل العينة. وعند تعرض هذه الصبغات للضوء، تصدر توهجًا يُمكّننا من تحديد مواضع الجزيئات المراد تصويرها بدقة، مما يُتيح فهمًا أعمق لوظائف العديد من الجزيئات الحيويّة.
عامة، تتقيّد القياسات الضوئيّة بظاهرة "حَد الحُيود"، والتي تضع حدًا لقدرتها على تمييز الجزئيات بعضها عن بعضٍ؛ فعندما تصير المسافة بين نقطتين متقاربتين أقل من ٢٥٠ نانومترٍ تقريبا، أي حوالي 1/1000 من ثخانة شعرة الرأس، يُصبح من الصعب التمييز بينهما. ورغم أن الباحثين قد أوجدوا طرقًا للالتفاف حول هذا العائق، فإن جهودهم تقف قاصرة عن بلوغ تلك المسافات.
السؤال: هل يمكن التصوير في نطاق ما دون ١٠ نانومترات؟
حاول الباحثون إيجاد الكثير من الآليات الأخرى التي تسمح باستنتاج معلومات حول هذه المسافات الضئيلة، ولكن بطرق غير مباشرة، تحُد من فاعليتها. وتتطلب هذه الطرق عددًا كبيرًا من الفوتونات، أي ضوء شديد التوهج، وهو ما يؤدي إلى ما يسمى بالتبييض الضوئي، أي فقدان الصبغة الفلورية لقدرتها على الإشعاع.
لذلك ناقش الباحثون تقنية جديدة، تُسمى تقنية مينفلاكس MINFLUX، التي قدّمها ستيفين هيل لأول مرة في عام ٢٠١٦، وهو الحائز على جائزة نوبل في الكيمياء. ويحتجّ الباحثون في هذا المقال بأن هذه التقنيّة تسمح بتبيان المسافات الضئيلة بين الجزيئات إلى ما دون ١٠ نانومترات، بل ما دون النانومتر الواحد، باستخدام ضوء أضعف، وتحت بعض الشروط.
المنهجية: تحديد مركز الجزيء الفلوري
تعتمد الآلية المقترحة، كما فعل غيرها من قبل، على تحديد مركز الجُزيء الفلوري. هنا، بدأ الباحثون ببناء علاقة دقيقة بين مركز الضوء المسلط على العينة (معلوم) من جهة وبين مركز الجزيء (مجهول) من جهة أخرى. ولكن على نحوٍ مغاير لغيرها، تعتمد هذه العملية على تقليص عدد الفوتونات إلى حده الأدنى، نحو ١٠٠ مرةٍ أقل. إضافة إلى ذلك، فإن اعتمادها على استخدام الضوء دائري الاستقطاب circularly polarised، يحل معضلة رصد الجزئيات غير متساوية التوجه، متجاوزين بذلك معوقات الآليات السابقة، مما يسمح بدقة تصوير أعلى.
التوصل إلى مسافات نطاق الأنجستروم
تتمثل إحدى الإمكانات المثيرة لحدة التمييز السابقة في القدرة على التصوير المباشر لتوزيعات المسافات بين مجموعة من الجزيئات الكبيرة. فلا تعتمد البِنى البيولوجية ترتيبًا واحدًا جامدًا وغير متغير. بل إن الجزيئات مرنة، وينبغي أن تصبح هذه المرونة مرئية. وبهذا، أصبحت المجموعات الداخلية للجزئيات أكثر وضوحًا بواسطة مينفلاكس؛ حيث تمكّن الباحثون من تصوير مسافة بين جزيئين على أطراف بروتين، يسمى بالطرف كربوكسيلي C-terminus، وهي ما تبين كونها في نطاق 2-7 أنجستروم (أنجستروم= عُشر النانومتر).
ماذا بعد؟
أخيرًا، تمر الآن المجهرية الفلورية بمرحلة انتقالية مهمة: من تقنية تكتفي برسم خرائط للتوزيعات المكانية للجزيئات الحيوية إلى تقنية تكشِف مباشرة عن وظائفها بأقل قدر من التأثير؛ مما يضعها في مقدمة التقنيات التي تسعى لتحسين فهمنا عن عالم الأحياء المعقد، وكذلك لتطوير الوسائل الطبية، مثل: تشخيص الخلايا السرطانيّة.
على الهامش