تستمر النزاعات الداخلية في أي دولة لسنوات طويلة نتيجةً لوجود المحفزات الدائمة للصراع، والتي تؤدي في النهاية إلى سقوط ملايين الضحايا. وفي هذه الحالة لا يمكن الاعتماد على الحلول المؤقتة لحل النزاع. كذلك يصعُب اللجوء إلى حل جذري في حالة عدم وجود وسائل التدخل المؤثرة التي تساعد على تغيير الرأي العام، بهدف تمكين الحلول الدبلوماسية السلمية. وعادةً ما يكمن التحدي في توحيد وجهتي نظر الطرفين المتنازعين، أو على الأقل إيجاد أرضية مشتركة للنقاش، خاصة في ظل اعتقاد أحد الطرفين باستحالة تغيير وجهة نظر الطرف الآخر.
وانطلاقًا من دور الإعلام المحوري في تشكيل وجدان الجماعات، اختبر فريق من الباحثين في دراسة منشورة في دورية Nature Human Behaviour- فاعلية استخدام الإعلام المرئي لتعزيز السلام في كولومبيا، وإعادة إدماج أفراد القوات المسلحة الثورية الكولومبية -فارك- في المجتمع، عن طريق تغيير المعتقدات، والأفكار السلبية المُثارة حولهم، خاصة قدرتهم على التغيير والاندماج في المجتمع المدني السلمي.
جاءت هذه الدراسة بعدما أثبتت دراسات أخرى فاعلية استخدام وسائل الإعلام في تبديد المعتقدات الخاطئة، باستخدام مقاطع الفيديو، لتغيير المعتقدات التي تربط العنف بالفلسطينيين، وخاصة المسلمين، أو تُصور الإسرائيليين على أنهم أكثر براءة من أقرانهم الفلسطينيين. وقد نتج عن مقاطع الفيديو تأثيرًا إيجابيًّا في تغيير هذه المعتقدات الخاطئة.
وقد تأسست حركة فارك عام 1964 لتصبح حركة يسارية مسلحة معارضة للحكومة الكولومبية، مما أسهم في صراع ممتد، نتج عنه حوالي ربع مليون ضحية في كولومبيا. وبالرغم من توقيع اتفاقية سلام تاريخية بين حركة فارك والحكومة الكولومبية في 2016، فإن أكثر من نصف عامة الكولومبيين يُعارضون الاتفاقية عند إجراء الاستفتاءات العامة، مما يُعرقل تحقيق السلام على أرض الواقع.
أجرى الباحثون عدة مقابلات مع العامة في كولومبيا لفهم اعتراضاتهم على اتفاقية السلام مع حركة فارك؛ ليظهر أن أكبر معرقل للسلام هو إيمان العامة في كولومبيا بصعوبة تغيير أعضاء فارك. لذلك صمم الفريق مقاطع إعلامية تجمع أعضاء فارك السابقين؛ للحديث عن جهودهم للاندماج السلمي في المجتمع المدني المحيط بهم، إضافة إلى مقاطع فيديو لأفراد من عامة الشعب، والشرطة، والجمعيات الأهلية، للتصديق على حديث أعضاء فارك، ليكون المقطع أكثر إقناعًا للمشاهدين.
نجحت هذه الأساليب في تغيير أفكار المواطنين، حيث أوضحت النتائج اقتناع نسبة مرتفعة من المشاهدين بقدرة أعضاء فارك السابقين على التغيير والاندماج في المجتمع. وقد امتد أثر ذلك لحوالي 10 إلى 12 أسبوع بعد المشاهدة، كما أظهر المشاهدون تعاطفًا أكثر وتحيزًا أقل ضد أعضاء الحركة، وإن لم يستمر التعاطف كثيرًا.
وبذلك تؤكد هذه الدراسة على تأثير الإعلام في تشكيل الرأي العام، عبر تصميم المحتوى المقدم وقت الصراعات لتعزيز الطرح البنّاء. وذلك على عكس ما تفعله الكثير من مواقع التواصل الاجتماعي في الوقت الراهن، حيث تُصمم اللوغاريتمات الخاصة بها لتعزيز انتشار الرسائل المؤججة للنفوس بإعلاء شأن بعض الناس، وخسف الأرض بآخرين، أو خلق غرف مغلقة لا نسمع فيها إلا أنفسنا.