يعاني مريض اضطراب طيف التوحد (Autism Spectrum Disorder) من عجز في مهارات التواصل، بالإضافة إلى بعض السلوكيات المتكررة النمطية. حديثًا، أضيف فرط الحساسية للمدخلات الحسية الى أعراض هذا المرض. وتشير دراسات سابقة إلى أن فرط الحساسية يعود إلى تغيّرات في القشرة الدماغية (neocortex)، التي تعتبر الطبقة الخارجية من المخ، وبالتحديد إلى خلل في الخلايا العصبية البينية (interneurons) المعروفة كذلك بشبكة جابا (GABA) العصبية. وتبين أن حدوث طفرة للمادة الوراثية المسئولة عن إنتاج بروتين شانك٣ «Shank3» الذي يلعب دورًا مهمًا في إرسال الإشارات بين الخلايا العصبية في المنطقة ما بعد التشابك العصبي يؤدي إلى ظهور سلوكيات غير سوية ذات صلة بالتوحد عند الانسان.
أظهرت الدراسات السابقة علاقة بين وجود خلل في وظيفة الخلايا العصبية البينية "جابا" وبين فرط الحساسية للمحفزات الحسية في التوحد، لكنها لم تُظهر أية علاقة سببية مباشرة بينهما. تهدف هذه الدراسة إلى إظهار هذه العلاقة السببية باستخدام نموذج فئران محرومة من جين شانك٣ ولديها أعراض شبيهة بالتوحد. تعتمد هذه التجربة على تمرين الفئران المثبتة الرأس والمحرومة من المياه على لعق الماء ضمن فترة زمنية محددة استجابة لمحفزات حسية ضعيفة. كما سيتم تصوير الخلايا العصبية في القشرة الدماغية الحسية (vS1) المسئولة عن استلام ومعالجة المعلومات الحسية من جميع أجزاء الجسم لقياس استجابتها باستخدام بالكالسيوم ثنائي الفوتون، الذي يستخدم لقياس نشاط الخلايا العصبية أثناء التجارب على الفئران، وإجراء مقارنة بين الفئران المحرومة من جين شانك٣ والفئران ذات الجينات غير المعدلة .
من أجل دراسة ما إذا كانت هذه الفئران تُظهر فرط في الحساسية الحسية، قام العلماء في هذه الدراسة بتدريب الفئران على مهمة كشف الحركة الاهتزازية لاختبار ما إذا كان هناك فرق في فرط الحساسية تجاه المدخلات الحسية بين الفئران المحرومة من جين شانك٣ والفئران ذات الجينات غير المعدلة. طوّر الباحثون طريقة لقياس حساسية الفئران للانحرافات الطفيفة لشعيراتهم، والتي تعتبر من أهم مصادر المدخلات الحسية لدى الفئران، ثم قاموا بتدريب الفئران المحرومة من جين شانك٣ والفئران ذات الجينات غير المعدلة لعرض السلوكيات التي أبدتها عندما شعرت بلمسة لشعيراتها. ووجد الباحثون أن الفئران التي تفتقد إلى شانك٣ ظهرت عليها بدقة انحرافات طفيفة لم تلاحَظ على الفئران العادية.
وبمجرد أن أثبت العلماء أن الفئران الطافرة عانت من فرط الحساسية الحسية، شرعوا في تحليل النشاط العصبي الأساسي. وللقيام بذلك، استخدموا تقنية تصوير يمكنها قياس مستويات الكالسيوم، والتي تشير إلى النشاط العصبي، في أنواع خلايا محددة، ووجد الباحثون أنه عندما تم لمس شعيرات الفئران، كانت الخلايا العصبية المثيرة في قشرة الحسية الجسدية مفرطة النشاط. كان هذا مفاجئًا إلى حد ما لأنه عندما يكون شانك٣ مفقودًا، يجب أن ينخفض النشاط المشبكي. وقد أدى ذلك بالباحثين إلى افتراض أن أساس المشكلة هو انخفاض مستويات شانك٣ في الخلايا العصبية المثبطة التي عادة ما تقلل نشاط الخلايا العصبية المثيرة. وبموجب هذه الفرضية، فإن تقليل نشاط تلك الخلايا العصبية المثبطة سيسمح للخلايا العصبية المثيرة بالسيطرة دون رادع. ولاختبار هذه الفكرة، صمم الباحثون الفئران المعدلة وراثيًا حتى يتمكنوا من إيقاف التعبير الجيني ل شانك٣ حصريًا في الخلايا العصبية المثبطة للقشرة الحسية الجسدية. واتفقت النتائج التي توصلوا إليها مع شكوكهم، حيث وجدوا أن الخلايا العصبية المثيرة في هذه الفئران كانت مفرطة النشاط، على الرغم من أن هذه الخلايا العصبية لديها مستويات طبيعية من شانك٣.
ومن شأن إثبات أن خلل الخلايا العصبية البينية جابا في القشرة الدماغية مرتبط بعجز متعدد في المدخلات الحسية في عدة نماذج حيوانية أن يفتح الطريق لفهم مرض طيف التوحد، الذي يعتبر من الأمراض المعقدة وصعبة الفهم. علاوة على ذلك، يمكن لمعرفة الخلايا المسئولة عن كل عَرَض من أعراض هذا المرض أن يمهد الطريق لإيجاد بدائل علاجية يمكن تجربتها في النماذج الحيوانية ومن ثم يمكن أن تكون الملجأ الوحيد للكثير من الحالات المصابة بالتوحد.